غريب حال الموسيقى في حياتنا اليوم، أسباب ذلك كثيرة، ومنها أننا رويدا رويدا نجد أنفسنا غارقين في طوفان من الموسيقى والغناء على اختلاف أنواعهما.
فالغناء والموسيقى أصبحا يحتلان مجالنا الخاص ويحاصراننا في مجالنا العام الواسع بما نريد وبما لا نريد، بما نحب وبما نكره ونبغض ولا نستسيغ، بما يلائم ويداعب أذواقنا وبما يجرحها ويحرجها أمام أنفسنا ومعارفنا المقربين.
ونحن في كل ذلك نجد أنفسنا متورطين في هذا الطوفان الذي يغتال خصوصيتنا، ونقاط تميزنا في حقنا بالاستماع لمن نريد، أمام هذا التغول والتعدي على سمعنا وذوقنا، وبالتالي التلاعب باختياراتنا.
هذا التورط يكتشفه المتابع في كل مكان يذهب إليه أو يزوره؛ فلدينا المثال الذي أخذ يتزايد، ولا بد من أن هواة التسوق قد لاحظوه، حيث المحلات التجارية التي تبيع الملابس والأحذية والإكسسوارات، والتي أصبحت تقدم موسيقى وغناء لا يحمل أي هوية مهما كانت، بل يعاني من تهجين وتخبط واضحين، وخلل ذوقي يفرضه صاحب المحل على الزبائن والمتسوقين.
قديما كانت الكثير من المحلات التجارية المهمة تستخدم أنواعا معينة من الموسيقى الكلاسيكية، سواء العربية أو الغربية؛ أسباب ذلك كثيرة جوهرها منح الراحة النفسية المتسوقين، وربما لتسهل عليهم نقد ثمن ما يشترون، مهما علا وارتفع، كما أن ذات الموسيقى تعتبر أداة لمنحك حالة من الاستعداد للبقاء داخل المحل لأطول فترة ممكنة، تتفرج على معروضاته وتحرك خيالاتك وتستحثك على الشراء والدفع وعلى وجهك علامات الرضا والانبساط.
اليوم اختلف الحال كثيرا في هذا الاستخدام، فأصبحنا نسمع موسيقى وغناء هجينا يفتقد الهوية تماما، لدرجة أصبحت قضية التهجين الفني هذه تصل لمراحل "متقدمة" في الابتذال، وقلما تنال مناحي الإبداع وتقترب من جديد الخلق في عملية التوليف والقطع والربط والمزج.
فإن كنت من هواة التسوق في المحلات الكبرى أو المولات فسيصادفك مثلا أن تستمع داخل هذا المحل أو ذاك لمقطع من أغنية لفضل شاكر (30 ثانية مثلا) ثم يتبعها مقطع من أغنية لمطرب شعبي آخر "سعد الصغير مثلا"، يليها مقطعا "رمكس" لأغنية قديمة لعبد الحليم حافظ تقدمها بإيقاعات حديثة فرقة شبابية جديدة، ومن ثم يتبعها مقطعا من أغنية "روك"، يليها مقطع من أغنية فيروز تقدمها مغنية مغمورة بإيقاعات حديثة، يتبعها مقطع من أغنية "راب" أو "هيب هوب" لفرقة أمريكية... وهكذا.
والملاحظ هنا أن هذه المقطوعة الجديدة تأتي نتاج شتات غير قريب بل بعيد من أصناف موسيقية وغنائية مختلفة، دون أن يكون بين مقطع وآخر أي نظام حتى لو كان لونيا، أو لغويا، أو حتى لحنيا.
إلى أي مدى ندقق في تفاصيل ما نسمع؟وسيبدو لنا أن هذا النمط - الذي أخذ بالانتشار سريعا مع تفشي نزعة الاستهلاك في حياتنا العربية بظهور عشرات المولات والمحلات التجارية على النمط الغربي - جزءًا من نتاج العولمة على المناحي الفنية كالموسيقى والغناء.
ومما يجعلنا نضاعف من قلقنا أن خطاب العولمة الذي يفرض نفسه ومفرداته ورموزه لا يشجع فقط نمطا ثقافيا أو فنيا معينا بمقدار ما يشوه الأنماط الأخرى أيضا، فلم نلحظ فقط استخدام بعض الفرق الفنية العربية الشبابية والكبيرة للآلات الغربية أو الغناء باستخدام ألحان غربية أو تطعيم الآلات الغربية بالعربية، أو استخدام تقنيات التطور العلمي وأجهزة الكمبيوتر في استخراج الموسيقى، بل تعدى الأمر ذلك كثيرا إلى تقديم مقطوعات غنائية وموسيقية مهجنة تفتقد العنوان الأساسي لها، لدرجة يصعب تصنيفها أو وضعها تحت أي خانة، ولو طرحت سؤالا بسيطًا: إلى ماذا تستمع في هذا المحل التجاري أو ذاك؟ أو ماذا يعرض هذا المقهى على زبائنه كخلفية تشجع حضورهم وبقاءهم؟ لما وجدت جوابا واحدا شافيا أبدا، كونه لا يوجد من البداية أصلا.
ربما يحدث ذلك داخل المحلات التجارية الكبرى أو المقاهي ذات النمط الغربي لأسباب لها علاقة بإرضاء أذواق مرتاديها الذين ينبثقون من خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة، ولكنه، ومع ذلك، إرضاء لحظي ومؤقت، يفتح شهيتك على أغنية تحبها لفيروز مثلا من خلال استحضار مقطع من الأغنية لا يتجاوز 30 ثانية، لكنه يصدمك ويجبرك على سماع مقاطع ربما لا تفضلها ولا ترغب في سماعها وربما لا تفهمها في كوكتيل غنائي مهجن يصنع في محلات بيع الأسطوانات على ذوق صاحبه، أو على جهاز الكمبيوتر الذي أصبح مكونا أساسيا في أغلب المحلات الاستهلاكية.
لا يتمثل حضور هذا النمط الموسيقي والغنائي في المحلات التجارية الكبرى أو المولات فقط، وإنما تجد له صدى متزايدًا في المقاهي الحديثة (كافي شوب) التي تنتشر بسرعة أو في مطاعم الأكل السريع، وتجد لها صدى وحضورا طاغيا بين فئات الشباب من طلبة الجامعات والموظفين.
المشكل الأكبر أن هذه الفوضى الفنية لا يحكمها في الغالب أي ملمح إبداعي أو ذوقي، وغالبا ما عليك كمتسوق في مول أو محل تجاري أو كجالس في مقهى إلا أن تتقبله، وإلا عليك المغادرة، طالما لا تمتلك الحق في التدخل بفرض ذوقك الخاص على الجميع، حتى لو كان خيارك أن الصمت أرحم