ليس صدفة أن يصرح وزير مغربي مكلف بالاتصال والإعلام قبل أسابيع قليلة بأنه كان يفضل إنشاء قناة لفن الـ"هيب هوب" بدل القناة المغربية السادسة للقرآن الكريم. وليس من الصدفة في شيء أن يقول وزير الثقافة المغربي في أحد تصريحاته:إن "الهيب هوب هو عماد مستقبل الأغنية المغربية".
ستكتمل الصورة بدعم بعض سياسي المغرب وأحزابه لهذا الفن الغنائي الجديد، وسنجد أن السفارة الأمريكية سبق أن نظمت مهرجانات له، الأول منذ سنتين جاء كنوع من التواصل بين فناني "هيب هوب" المغاربة والأمريكيين، واعتبر غداتها خطوة جديدة جريئة في الدبلوماسية الثقافية الأمريكية.
والسؤال الملح: هل انتشار "الهيب هوب" بدرجة كبيرة أخيرًا في المغرب كلون موسيقي شبابي مرده إلى عوامل اجتماعية وثقافية معينة، أم إلى رغبة الشباب أنفسهم في التمرد على قوالب جاهزة اجتماعيا وثقافيا وموسيقيا أيضا؟
نجوم الوقت
يجمع المراقبون على أن شرارة ظاهرة مجموعات "الهيب هوب" انطلقت من مدينة مكناس، جارة العاصمة العلمية فاس، وذلك ميلاد مجموعات مستقلة تخصصت في هذا النمط الموسيقي.
اهتمام الشباب المغربي ظهر منذ البداية وبشكل غير مسبوق تجلى في الحضور الكثيف في المهرجانات التي تقام بين الفينة والأخرى، خصوصا في أشهر الصيف، وآخرها كان مهرجان "البوليفار" الذي يقام بشكل سنوي بالدار البيضاء، حيث يأتي إليه آلاف الشباب ليتسمروا أمام مجموعات فنية مؤسسة لثقافة "هيب هوب" بحق.
وكان من ضمن الأغاني الجديدة والتي استحوذت على الاهتمام بين مؤيد ومعارض أغنية المطرب الشعبي "توفيق حازب" الملقب بـ"الخاسر" (وتعني بالدارجة المغربية قليل الحياء) الذي قدم أغنية تدافع عن الساقطات والعاهرات وتمجدهن فيما ينتقد في أغاني ثانية كل نساء المغرب، فيما قدمت فرقة مغربية أخرى أغنية شعبية اسمها "حماري القوي" تغازل الحمار وتطالب بعودته لذلك الشاب الذي فقده.
يتساءل المهتمون ومنهم الدكتور "عبد الرحيم العطري"، اختصاصي وخبير اجتماعي مغربي، عما "يعنيه هذا الإقبال المطرد لجماعات المراهقين والشباب على الاستماع لتلك الموسيقى؟ وكيف نفهم ونتفهم هذا اللهاث وراء موضة محددة تعتمد كليا على مصدر واحد آت من دنيا "الآخر" في صور موسيقية يتبعها مرفقاتها من سراويل "الجينز" المتهدلة والفضفاضة وقبعات "البتلز" وقمصان "جوردان" وأحذيته الرياضية والعسكرية الباذخة؟ وهل يبدو الأمر مجرد عشق بريء لموضة "الآخر" وموسيقاه فقط؟
هنا يقف الباحث الاجتماعي قليلا ليجيب عن أسئلته قائلا: "في هذه الموسيقى تلوح ثقافة الاغتراب وتتأكد الهوة السحيقة بين الشباب وهويته المهزوزة".
ويتابع: "يلوح أيضا الإفلاس البيِّن للمشروع المجتمعي بالمغرب الذي يكشف عجزه وقصوره المزمن عن احتضان هموم وآمال الشباب، وتلبية احتياجاتهم بعيدا جدا عن هواجس الفرملة والتدجين".
ويردف العطري بتأكيد أنه عندما يغدو الهمّ الوجودي لكثير من شبابنا منحصرا في اقتفاء أثر "نجوم الوقت" في تسريحة الشعر وماركات العطور والمراهم وأذواق الموسيقى واللباس، حينئذ يتأكد التجذر العميق لثقافة الاغتراب والبعد الواحد المفتوح على الاستهلاك الفارغ، كما يدل هذا الهاجس على نوع من "الحريك السوسيوثقافي" (الحريك مصطلح مغربي يقصد به ظاهرة الهجرة السرية وغير القانونية إلى أوروبا)، فأمام تنامي الجليد بين الشاب وأسرته ومدرسته وإعلامه وكافة مؤسسات التنشئة الاجتماعية، يمارس الشباب خطأ وقصدا "حريكا" نحو الآخر، باعتناق موسيقاه وارتداء ملابسه".
إحالات الظاهرة والتشجيع السياسي
ويرجع الناقد والصحفي مصطفى حيران أسباب الظاهرة وإحالاتها إلى كونها مثل "العديد من الظواهر المشابهة التي عرفها المغرب في العقود القليلة الماضية، نظير ما أُطلق عليه في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، (التويست) و(الريكي)، حيث ظهر شباب ومراهقون مغاربة يرقصون على إيقاعات تلك التقليعات الموسيقية الغربية السريعة".
ويضيف: "غير أن الأمر لم يأخذ وقتًا طويلاً في تلك الفترة، فالطبيعة المحافظة للمجتمع المغربي، فضلاً عن تشدد الضبط السياسي للمجتمع، سرعان ما جعلا الظاهرة تتلاشى، ناهيك عن أن تجربة المجموعات الغنائية المغربية الناجحة، النابعة من صلب انشغالات المجتمع المغربي الثقافية والاجتماعية والفنية، وربما السياسية أيضا، جعل الشباب المغربي ومراهقيه يهتزون مع إيقاعات (الهجهوج) و(السانتير) و(الطام طام) أكثر من الأدوات الموسيقية الغربية أو الأمريكية اللاتينية".
"هذا شيء مهم"، بمنطق الناقد مصطفى حيران، باعتبار أن الذائقة الفنية والموسيقية المحلية لتلك المجموعات الغنائية، وعلى رأسها مجموعة "ناس الغيوان" كانت مُقنعة وجيدة، إضافة إلى تجذرها في صلب التراث الموسيقي والثقافي المغربي.
ويعتبر حيران أن الجديد بحق في الظاهرة الجديدة هو هذا الاهتمام السياسي بظاهرة مجموعات "الراب" و"الهيب هوب" بنكهة مغربية: "أعتقد أن هذا الاهتمام الذي ذهب إلى حد اقتراف وزير الثقافة المغربي تصريحه المتسرع ذاك، واعتماد حزب نفس الوزير على مغني الراب الشاب (توفيق حازب) الملقب بـ(الخاسر) في بعض المناسبات الحزبية، يُعتبر مُثيرًا للسخرية والشفقة من المستخدِم، والمستخدَم".
يشرح حيران ما يريد قوله بتأكيد أنه من المثير للسخرية حقًّا أن تصل السياسة ببعض الناس إلى حد استخدام إبداعات فنية لوجه فني محبوب، من طرف الشباب والمراهقين المغاربة لاستدرار أصوات الناخبين، وحشد الأتباع لتنظيم سياسي ينفض الناس من حوله، بدلا من إبداع برامج سياسية لحل المشاكل المستعصية، التي يتخبط فيها البلد، وتجعل شبابه يُمعنون في التطرف دينيا واجتماعيا وثقافيا وموسيقيا".
أما بالنسبة لخلفيات تشجيع الظاهرة سياسيا، فهي حسب مصطفى حيران: "دعم كل ما يصب في اتجاه تحجيم الدور السياسي المحتمل للاتجاهات الإسلامية في الانتخابات التشريعية المقبلة، وهذا في اعتقادي سلاح ذو حدين، إذ الوجه غير الظاهر منهما هو تنمية وتغذية عناصر التطرف بين أفراد المُجتمع، وهي سياسة خطيرة لا يخفى الاتجاه الخطير المُدمر الذي تؤدي إليه".
افتقاد السند
ولا يقر الدكتور عبد الرحيم العطري بما قد يحمله "الهيب هوب" من مضامين فنية واجتماعية من خلال الموسيقى، إذ يشدد على أن "الهيب هوب" المغربي حاليا يفتقد للسند الإيديولوجي، فإذا كانت سنوات السبعينيات قد أنتجت موسيقاها و"هيب هوبها"، فإن الانشغال العميق بما كان يحدث في فيتنام والانتصار لحق الشعوب في تقرير مصيرها، فضلا عن التشبع بقيم حقوق الإنسان، كلها مبادئ كانت تؤطر هذه الموسيقى وتحدد شرطها الوجودي، فهل نجد هكذا انشغالا فكريا لدى شباننا الذين لا يعرف أغلبهم مضمون كلمات الأغنية التي افتتن بها؟".
ويتساءل: "أي قيم إيجابية يراد تمريرها من خلال كلام ساقط، ومن خلال أصوات لا علاقة لها بالطرب، وموسيقى تهدي الصداع بدل الاستمتاع والابتهاج؟".
موسيقى الشباب الأعزل
غير أن الدكتور سعيد يقطين، مهتم بالشأن الثقافي والفني المغربي، له وجهة نظر مغايرة، فهو يرى في الهيب هوب تعبيرا شبابيا بامتياز عن آلام كثير من الشباب وآماله وطموحاته وأفكاره، فقد ترك الشباب المغربي أعزل وحيدا بلا آمال ولا آفاق، فقرر مصيره بمنأى عن الرسمي والشعبي، وعن العرف والعادة، واختار لنفسه مواجهة الواقع كل على طريقته، ووفق إمكاناته ومؤهلاته وقناعاته وظروف حياته".
ويرى يقطين أن شباب المدن الكبرى اختار التعبير عن الاحتجاج والرفض بطريقة أخرى وأسلوب مغاير: الغناء. وفي هذا الغناء يقول هذا الشباب، سواء كان مبدعا أو متلقيا لهذا الإبداع الغنائي: "لكم لغتكم ولي لغتي. لكم غناؤكم الذي به تزيفون الواقع وتضحكون من خلاله على الذقون وحتى الآذان. ولنا غناؤنا الذي نعبر فيه بلغتنا وبطريقتنا عن عالمكم التافه".
ويصف يقطين موسيقى الهيب هوب بأنها عبارة عن سرعة في الأداء، وتداخل اللغات، وتنوع اللهجات، ولغة عارية، وتجسيد لمعاناة اليومي المرئي والمسموع والمعاين.
إنها، برأي سعيد يقطين، موسيقى جديدة عما اعتاد عليه الناس، وتعبير صارخ وفاضح عن الإحساس بالضياع والعزلة عن المجتمع الذي لم يوفر الإمكانات اللازمة لحياة أحسن.
ويستدرك يقطين بالقول: إن "هذا الحدث الموسيقى الجديد مع جيل جديد يحمل قيما وأفكارا مغايرة، وفي أغانيه إبداع وبحث واجتهاد. لكن تطويره رهين، ليس فقط في الالتفاف حوله أو معارضته، ولكن في دراسته وبحثه وتحليله. أما الشباب الذي ينخرط فيه فمطالب هو أيضا بمزيد من البحث لتطوير الذات والبحث لها عن منافذ إبداعية حقيقية لا ظرفية تتأثر بالظروف والملابسات المحيطة".
الهيب هوب والغيوان: أية مقارنة؟
ولعل المهتم بالموسيقى المغربية الراهنة يطرح التساؤل الذي لا يمكن أن لا يحظى بنقاش علمي وفني سليم: هل انتشار "الهيب هوب" في المغرب يعني "الموت" الفني للفن الأصيل والموسيقى الجادة والملتزمة، مثل مجموعات "ناس الغيوان" و"المشاهب"؟
الجواب يأتينا سريعا من الناقد الصحفي مصطفى حيران الذي يجزم بأن دور المجموعات الغنائية انتهى فعلا، وهذه حقيقة يمكن ملاحظتها بيسر عندما نعاين المستوى الفني الشائخ، الذي ما زالت تصر عليه بعض المجموعات نظير ما تبقى من التجربة الذهبية لناس الغيوان والمشاهب.
ويتابع: "المرحلة غير المرحلة، حيث المطلوب ابتكار وسائل جديدة في التعبير والأداء، وهذا يتطلب قرائح جديدة بالضرورة".
ويردف حيران مجليا فكرته: "لا يفوتنا أن نقول بأنه يكفي المجموعات الغنائية المغربية فخرا، أنه إذا كان المجتمع الإنجليزي يقول بأنه يتوفر على تراث غنائي وفني وثقافي لا يموت، جسدته مجموعة "البيتلز" فإنه يحق للمغاربة أن يفتخروا بتجربة مماثلة، لا تقل قيمة، هي مجموعة "ناس الغيوان".
ويقارن حيران بين التجربتين قائلا: إن تجربة الهيب هوب أو (الراب) لا يمكنها أن تحل مكان ظاهرة المجموعات الغنائية المغربية، لسبب بسيط يتمثل في اختلاف التجربتين، من حيث عمق الاجتهاد الفني والثقافي، فبينما نجد أن شباب الهيب هوب والراب، يستلهمون إيقاعاتهم وأشكال زيهم أكثر من التجربة الأمريكية والأوروبية، مع استضمار لا يمكن إنكاره لمضمون التعبير المحلي، فإن المجموعات الغنائية المغربية كانت أكثر تجدرا في الواقع المغربي، وهو ما ذهب إلى حد إصرار مجموعة ناس الغيوان، مثلا على عدم استعمال أية وسيلة موسيقية حديثة، ناهيك عن استلهامها للتراث الثقافي والفني المغربي المتجذر نظير التراث الموسيقي ومضامين التعبير لدى كَناوة وشعراء ومغنيي سوس وزَيَان.
ويخلص الباحث الفني إلى أن ظاهرة "الهيب هوب" نوع من التجريب الفني المضطرب، سوف يُفضي -إن اتخذت الأمور اتجاها إيجابيا- إلى أشكال ومضامين موسيقية أكثر رقيا وتجدرا، شريطة أن يتركها أصحاب السياسة تينع على سجيتها".
تيه جماعي
ولموسيقى "الهيب هوب" جمهورها الكثيف الخاص، حيث يحضر آلاف الشباب إلى مهرجانات لهذا النمط الموسيقي الشبابي برغم كل المثبطات والمشاكل الاجتماعية التي تعاني منها هذه الفئة من المجتمع المغربي.
يقول الخبير الاجتماعي عبد الرحيم العطري: "إن ثقافة الاغتراب التي تعصف بفئات عريضة من الشباب المغربي، والتي يمكن تلمس آثارها في الإصرار المتواصل على حجز مقعد بمبالغ خيالية في "قوارب" مقبرة المتوسط، تبرز أيضا في شكل "حريك ذوقي" من خلال الإقبال على هذه الموسيقى الصاخبة ومتطلباتها اللباسية والطقوسية الأخرى من قبيل الوشم والأقراط واللغة والممارسات والمعايير والقيم، فالأمر أشبه ما يكون بثقافة فرعية تتأسس في مواجهة الثقافة السائدة.
ويشير إلى أن هناك صراعا قائما بين ثقافتين تحاول كل واحدة منهما أن تسود على حساب الأخرى، بل وتحاول أن تخضع إحداهما الأخرى وتجعلها أكثر امتثالا لكل قيمها ومعايرها، وفي ذلك عنف واضح يؤجج الثورة والرفض الاجتماعي، وينتج في النهاية "هوة الأجيال" وما ينجم عنهما بالتبعية من ظواهر مرضية، ترد أسبابها خطأ وفي غالب الأحيان إلى جيل الشباب".
ويوضح العطري أن الظاهرة تبدو شبابية في الغالب، لكنها لا تعني فئة دون غيرها من الشباب، إذ نجدها بين أوساط الشباب المتعلم والعاطل والمتمدرس وغير المتمدرس، بل حتى السياسي والعازف أصلا عن السياسة، والدليل هو تجاوب أنصار شبيبات حزبية في أكثر من مكان مع هذا النمط الموسيقي.
إنها ظاهرة متصلة بجيل وجد نفسه في مغرب الهشاشة والاحتقان، ووجد نفسه، ومن غير أن يدري، محور كل الرهانات لمغرب في مفترق الطرق، لهذا فهذه الموسيقى تعبر عن تيه جماعي وإفلاس مجتمعي.
toutrbi@hotmail.com:
: