: شعراء الرفض هم طائفة من المتمردين "لا تجمع بينهم أزمنة ولا أمكنة. فهناك عمرو بن كلثوم في "العصر الجاهلي" وحافظ إبراهيم في "العصر الحديث" وأحمد مطر في "الألفية الثالثة"، في الوقت ذاته نجد أن أبا القاسم الشابي "تونسي" والجواهري "عراقي" والبردوني "يمين"، وأمل دنقل "مصري" وعمر أبو ريشة "سوري" و"محمود مفلح" فلسطيني، أوطانهم متباعدة، ولكن رسالتهم واحدة.
وإذا كانت قاعدة شعراء الرفض والمعارضة من الرجال، فإننا رأينا أيضًا شاعرات معارضات أمثال: الفلسطينية فدوى طوقان، والمصرية علية الجعار، والعمانية سعيدة خاطر، يؤمن هؤلاء الشعراء بأن "أفضل الأدب قصيدة غضب عند حاكم مستبد"، فشهروا قصائد غضبهم في وجه المستبدين والطغاة، وكانت الضريبة السجن والمنفى والعيش الدائم على حافة الممنوع، بل ربما التعذيب والاغتيال.
التمرد على حاكم مصر
لنبدأ مع شاعر مختلف عليه، رجل مثير للجدل، إنه أبو الطيب المتنبي، الذي دخل مصر عام 346 هجرية، ومدح حاكمها "كافور الإخشيدي" الأسود، لكنه سرعان ما نقلب عليه وهجاه بشعر قاسٍ، وهرب من مصر سنة (350هـ)،واستطاع المتنبي أن ينجو من رجال كافور الذين كانوا يريدون قتله، غير أن قصيدة المتنبي في هجاء كافور ظلت محفورة في ذاكرة التاريخ وعنوانها "عيد بآية حال عدت يا عيد"؟ ومما قاله فيها:
أكلما اغتال عبد السوء سـيده أو خانه فله في مصر تمجيد
صار الخصي إمام الآبقين بها فالحر مستعبد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بَشَمْنَ وما تغني العناقيد
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
المنفلوطي يهجو الخديو "سعيد"
وقد شهدت الحقبة التاريخية التي عاش فيها الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي "1872ـ1924م"، نهوضًا أدبيًّا وفكريًّا، ويعتبر كتابيه "النظرات" و "العبرات" من أبلغ ما كتب بالعربية في العصر الحديث، وتتميز كتابات المنفلوطي بصدق العاطفة في آرائه واندفاعه الشديد من أجل المجتمع، وكان يميل في نظراته إلى التشاؤم، فلا يرى في الحياة إلا صفحاتها السوداء.
كتب المنفلوطي في الشعر الوطني، أو شعر المقاومة والدعوة إلى الحرية، الذي برز كسلاح أدبي ضد الاستعمار فانبرى الشعراء في مقاومة الاستعمار الإنجليزي واستبداد الخديوية، ولزم المنفلوطي الشيخ محمد عبده وأفاد منه، وسجن بسببه ستة أشهر لقصيدة قالها تعريضًا بالخديو عباس حلمي الذي كان على خلاف مع محمد عبده تقول القصيدة:
قدوم ولكن لا أقول سعيد وملك وإن طال المدى سيبيد
فلما توليتم طغيتم وهكذا بحار الندى تطغي ونحن ورود
فكم سفكت منا دماء بريئة من الحق ليست للأمان تريد
طغت وبسيف العدل سالت دماؤها وكم ضمت تلك الدماء لحود
اللعين الأول
صاحب هذه القصيدة الشاعر الأديب السوري "محمد المجذوب" المولود في مدينة طرطوس 1907م إحدى أجمل مدن الساحل السوري تفجرت لديه الموهبة الشعرية في سن مبكرة، ومما زاد في ذلك سقوط سورية بيد الفرنسيين، فانضم لركب المقاومين للاستعمار، وتعاون مع المجاهدين وأجج نيران الغضب ضد الغاصبين، وتابع مقاومة العدو بالقلم واللسان والبندقية، وحضر المؤتمر الوطني الكبير 1936، حيث أضربت سورية ستين يوماً حتى حصلت على استقلالها بموجب معاهدة 1936 مع فرنسا، لكن ما لبثت فرنسا أن عادت إلى استبدادها واستعمارها من خلال أسلوب الحكم المباشر.
وقد نظم المجذوب الشعر وزاد وارتفع إنتاجه الشعري ونشر عدداً من دواوينه وهو في سورية منها ديوان "نار ونور"، وعندما أعلنت الجامعة العربية عن مسابقة لنشيد لها، كان نشيده الأول فحصل على جائزة الجامعة العربية.
جدير بالذكر قصيدة "اللعين الأول" التي نحن بصددها هي قصيدة رمزية عثر عليها بتوقيع.. "الشاعر المجهول" لكن في النهاية عثر عليها كاملة في ديوان "همسات قلب" الشاعر محمد المجذوب، واللعين الأول الذي يقصده شاعرنا - هو أنه كلما تخلص الناس من "لعين" جاءهم من هو "ألعن منه"، وعندما يقارنون بين ظلم اللعين الأول وظلم اللعين الذي يليه هتفوا بحياة الأول؛ لأن ظلمه إذا قيس بمن يليه يُعد رحمة. ومن يقلب صفحات الماضي يلحظ أن هذه الظاهرة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ العربي.
كان جوان - ليته لم يكن يزاول الدفن بإحدى المدن
وكان كل الناس يكرهونه لغير ذنب غير ما يحكونه
بين كونه يجرد الأمواتا من كل شيء يستر الرفاتا
حتى أتاه الموت فاستراحا وقومه من شره أراحا
ومرت الأيام والليالي والناس في بحر من البلبال
إذ فوجئوا بالمنكر الجديد فقد جاوز الأحلام في التجديد
فالميت لا يعرى فقط من ستره بل تغرز الأوتاد في وسط دبره
جلاد الكنانة
عندما نتحدث عن استبداد الحكام وطغيانهم نجد الدكتور محمود خليفة غانم يكشف في قصيدته "خذني إليك.." عن ألوان صادمة من الممارسات القمعية، والانتهاكات المشينة التي تلطخت بها سنين القهر والاستعباد. فيقول:
خذني إليك لعل نارك أرحم ما دمت قد وليت من لا يرحم
فالنار عندك جنة لو قورنت بالسجن في زنزانة تتضرم
جدرانها تهتز في أنفاسها آهات مظلوم تذوب وتكظم
أما الشاعر المصري "هاشم الرفاعي" فيقول في قصيدته "جلاد الكنانة" ضمن "القصائد العشر في جراح مصر" التي كتبت سنة 1955:
أنزل بهذا الشعب كل هوان وأعِدْ عهود الرق للأذهان
واقتل به ما استطع ت أي كرامة وافرض عليه شريعة القرصان
أطلق زبانية الجحيم عليه من بوليسك الحربي والأعوان
واصنع به ما شئت غير محاسب فالقيد لم يخلق لغير جبان
سيرة سياف
أما الشاعر "نزار قباني" الذي أثير الكثير من الجدل حول شعره وشخصه، فكان له مع شعر الرفض قصائد تعبِّر عن ألمه وغضبه، وخلف تراثًا كبيرًا من الشعر في هذا الجانب، ولعل أكثرها شهرة قصيدته "هوامش على دفتر النكسة"، وجه نزار خلالها رسالة للرئيس جمال عبد الناصر قال فيها:
لو أحد يمنحني الأمان
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان
قلت له: يا سيدي السلطان
كلابك المفترسات مزقت ردائي
ومخبروك دائما ورائي كالقدر المحتوم كالقضاء
وفي قصيدته "السيرة الذاتية لسياف عربي" والتي منع بسببها من دخول عدد من الدول العربية وهي تقع في 154 بيتا، والفكرة الرئيسية هي تصوير الطغيان والقهر والتسلط والاستبداد والإقطاع السياسي الذي ابتليت به البلاد العربية، فيقول:
أيّها الناسُ:
أنا الأوّلُ، والأعدَلُ،
والأجملُ ، من بينِ جميعِ الحاكمينْ
وأنا بدرُ الدُجى، وبياضُ الياسمينْ
وأنا مخترعُ المشنقةِ الأولى..
وخيرُ المرسلينْ
كلّما فكّرتُ أن أعتزلَ السُّلطةَ،
ينهاني ضميري..
مَن تُرى يحكمُ بعدي هؤلاءِ الطيّبينْ؟
الحاخام يخطب في بغداد
يحيى السماوي شاعر مسكون بهموم وطنه، اصطلى بنيران الاستبداد في بغداد، حيث قضى في سجون العراق قرابة العشرين عاماً، ثم استطاع الهروب من السجن بأعجوبة عام 1991، وكتب قصيدته النارية بعنوان "الحاخام يخطب في بغداد" عام 1994 بعد أن ألقى صدام حسين خطابًا يقول فيه: "وإنني ما زلت أمتلك الشجاعة الكامنة لتكرار التجربة.. فهنيئا للعراقيين وللأمة بالانتصارات العظيمة وبالمجد الذي حققناه"، أي بعد تدمير قوة العراق العسكرية على أيدي قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية، يقول السماوي:
خطب "ابن صبحة" يا أنام سمعا إذا خطب الهمام
"قعقاع" هذا العصر لو.. أقصى: تراجفت العظام
وإمام -حزب البعث-.. تقطر من عمامته المدام
غسل النصارى واليهود.. أمثله عرف اللئام!
وفي موضع آخر يقول:يتفاخرون بعار سطوتهم.. وأنا بوشم القيد أفتخر!
عجبا على الجلاد: قد هزمت.. فاه، والمقتول منتصر!
صلاة الكهان
نجحت الشاعرة العمانية سعيدة خاطر الفارس في قصيدتها "صلاة الكهان" في رسم صورة صادقة لحالة العجز العربي والترهل الذي أصاب الزعامات التي وصفتهم أدق توصيف وأبلغ تعبير "الراقصون" النائمون، المتسامحون، الخانعون، الراكعون، الساجدون..".
فتقول:الراقصون على جماجم صبرنا.. لا يأبهون
يتبادلون حراسة الوجع المعتق في الدماء.. فينتشون
النائمون على زلازل رفضنا.. لا يفقهون
أن البراكين الحبيسة قد تثور
القائمون.. الراكعون.. الساجدون
أغاني الديكتاتور
استهل الشاعر محمود درويش كتابه "خطاب الديكتاتور" برسالة بعث بها من باريس إلى صديقه الشاعر سميح القاسم، يقول فيها "هل تعرف ماذا يشغلني هذه الأيام؟ إنه الديكتاتور، من هو ديكتاتوري؟ إنه مجمل خصائص الحكم العربي الفردي الاستبدادي المجافي للطبيعة، والمتجسد في حكام يتداخلون في بعضهم تداخل صفات العامة المشتركة في فرد دون أن أحدد ملامحه الشخصية المميزة؛ لأن ذلك يعرضني إلى خطر استثناء آخرين وقد يعرضني أيضًا إلى مخاطر الهجاء.. إمضاء محمود درويش 9/9/ 1986 باريس: "خطاب الجلوس":
سأختار شعبًا محبًّا وصلبًا وعذبًا ..
سأختار أصلحكم للبقاء..
وأنجحكم في الدعاء لطول جلوسي فتيًّا
لما فات من دول مزقتها الزوابع
سأمنحكم حق أن تخدموني
وأن ترفعوا صوري فوق جدرانكم
وأن تشكروني؛ لأني رضيت بكم أمة لي..
سأمنحكم حق أن تتملوا ملامح وجهي في
كل عام جديد..
ولا تسمعوا ما يقول ملوك الطوائف عني،
وإني أحذركم من عذاب الحسد!
ولا تدخلوا في السياسـة.
إلا إذا صدر الأمر عني
القيد يألفه الأموات
كان من الشعراء من هو محرض على الثورة، وداعيا للحرية وحاثا على التغيير، بل والتغيير الشامل في ميادين الفكر والمجتمع والشعور، وكان "أبو القاسم الشابي" على رأس هذه القائمة من الشعراء، ظهر في مرحلة تحتاج إلى الثورة والتغيير، فتبني هذه الثورة وتبني الدعوة إلى التغيير العميق، ولقي بسبب ذلك آلاما كثيرة، زادت من آلامه الطبيعية التي كان يعانيها بسبب مرضه الخطير الذي قضى عليه، وهو ابن الخامسة والعشرين من عمره، في حياته القصيرة التي عاشها خاض كثيرا من المعارك الثقافية والاجتماعية ولقي من الإنكار والخصومة والمعارضة، ما يلقاه دائما أصحاب دعاوى التجديد والإصلاح والتغيير إذن، فلا غرو أن يكون الشابي هو الذي قاد حركة طلاب "الزيتونة" التي كانت تهدف إلى إصلاح مناهج التعليم والإدارة في الكلية، وتزعم إضرابهم عن الدروس بوطنية أصبحت مضرب المثل. وعندما كتبت الشابي قصيدته المشهورة،
التي مطلعها:إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد للــيل أن ينجلي ولا بـد للقيد أن ينكسر
ثار عليه رجال الدين وأثاروا الصحف وحرضوا الجماهير ضده، إذ كيف يقول الشاعر"لا بد أن يستجيب القدر"، كيف يستجيب القدر لقوة الشعب.. فالقدر لا يستجيب إلا لقوة الله؟، وصدق من أطلق على الشابي لقب شاعر الحب والثورة "فيقول في قصيدة" النهوض":
لا ينهض الشعب إلا حين يدفعه..عزم الحياة، إذا إما استيقظت فيه
والحب يخترق الغبراء، مندفعا..إلى السماء، إذا هبت تناديه
والقيد يألفه الأموات، ما لبثوا..أما الحياة فيبليها وتبليه
شاعر الثورة
الشاعر "وليد الأعظمي" "1930-2004" عاش حياته محبا للشعر والأدب لقد كانت جل أشعاره في الجانب الوطني والسياسي، وأهم ما يميزها الوضوح الشديد، ومناوأة الاستبداد والطغيان والقهر السياسي، حتى أنه كان يلقب بـ "شاعر الثورة" ففي قصيدته "نداء السجين" التي كتبها عام 1960، نراه يدعو إلى الثورة على البغي والتمرد على الطغاة، فالموت لدى الحر أهون من البقاء في ظل هذه الأنظمة الفاسدة، يقول وليد الأعظمي:
ثوروا على الباغي الذليل.. واحموا تعاليم الرسول
وأبغوا الحياة كريمة.. في ظل دستور نبيل
وتمردوا فالحر يأبى.. أن يساوى بالذليل
والموت أهون عند.. نفس الحر من حكم الدخيل
لا تصالح
أمل دنقل أحد الشعراء الذين داهمهم الموت في سن مبكرة، بعدما بلغت موهبته ذروة نضوجها الفني، كانت لديه شجاعة حقيقية تلك التي تبدت في شعره، فقد كان جريئا لعدم ارتباطه النفعي بالحياة فلم يكن يعبأ عندما يقول كلمته أو يكتب قصيدته كبقية الشعراء، وقصيدته "لا تصالح" التي كبتها في نوفمبر 1976م والتي يرفض من خلالها التصالح مع إسرائيل وهو الاتجاه الذي بدأه، وسار فيه حتى نهايته الرئيس المصري محمد أنور السادات، ويوضح أسباب ذلك، من خلال لغة الغضب والثورة التي تجتاح كيان القصيدة، يقول أمل في قصيدته:
لا تصالح! ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانها
هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى..
لا تصالح، ولو ناشدتك القبيلة..
باسم حزن "الجليلة" أن تسوق الدهاء
وتبدي -لمن قصدوك- القبول..
إنه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيل فجيل..
وغدا.. سوف يولد من يلبس الدرع كاملة
يوقد النار شاملة يطلب الثأر
يستولد الحق، من أضلع المستحيل..
ارحلوا
تكمن شهرة الشاعر العراقي "أحمد مطر" وهو من جيل المحدثين في خريطة الشعر العربي، في لون الشعر الذي أبدعه واعتاد أن يقدمه إلى الجماهير العطش إلى الحرية، وإخلاصه في فنه لقضية واحدة، ألا وهي قضية الحرية، فأعلن تمرده على أنظمة القمع والقهر، وشحذ لسانه في حرجه الديكتاتورية والاستبداد السياسي، فجاءت قصائده حادة غاية في الحدة، وقاسية غاية في القسوة، ومثلما نادى نزار قباني على أطفال غزة "فأحمد مطر ينادي على أهل الضفة في قصيدته الطويلة قائلا":
يا أهل الضفة يا أحرار
أنتم فاتحة القرآن، وأنتم خاتمة الأحزان
يا من تعتصمون بحبل الله جميعا
سيروا والله يوفقكم
لا تنتظروا منا أحد
لا تثقوا فينا أبدا
فهنا أبناء أنابيب
وهنا أبناء براميل
يعتصمون بحبل غسيل
أما عن سخريته السياسية اللاذعة، وانتقاداته السامة للحكومات العربية وهي أهم ما اشتهر به أحمد مطر فيقول في قصيدة تبديل الأدوار:
رأت الدول الكبرى تبديل الأدوار
فأقرت إعفاء الوالي
واقترحت تعيين حمار!
ولدى توقيع الإقرار نهقت كل حمير الدنيا باستنكار:
إن حموريتنا تأبى أن يلحقنا هذا العار!
أما قصيدته اللاذعة: "لن ننسى لكم هذا الجميلا"، فهي أفضل ختام لشعراء الرفض والشعراء الممنوع فيقول:
طفح الكيل
وقد آن لكم
أن تسمعوا قولا ثقيلا
كلا
كفى
شكرًا جزيلا
نحن نرجو كل من فيه بقايا خجل
أن يستقيلا
نحن لا نسألكم إلا الرحيلا
وعلى رغم القباحات التي خلفتموها
سوف لا ننسى لكم هذا الجميلا
احملوا أسلحة الذل وولوا
لتروا
كيف نحيل الذل بالأحجار عزا
ونذل المستحيلا..toutrbi vous souhaite bonne année