بالرغم من كثرة الأحاديث المتعلقة بمفهوم المرجعية الدينية على وجه الخصوص في الآونة الأخيرة فإنه من الملاحظ على مثل هذه الكتابات افتقادها إلى تحديد واضح لمفهوم المرجعية بحد ذاته، وأنه كلما دعت الحاجة للوقوف على بنيتها المؤسسة ازداد الحديث غموضًا واتسم الخطاب بمزيد من اللبس. وإلا فماذا تعني فكرة "المرجعية" في الأساس؟ وهل يتم التعويل عليها استنادًا إلى "النص" أم إلى "التجربة التاريخية" للأمة الإسلامية؟ وهل المرجعية كمفهوم يختلف ويتطور من جماعة لأخرى أم لا؟ وما حدود الاتصال والانفصال ما بين المرجعيتين؛ الدينية والسياسية؟! وما علاقتها، كإطار عام يحكم سياق الفتوى، بتقديس ممثليها، ومن ثَم تسلطهم؟.
في الواقع يعكس إصرار البعض على الاحتفاظ بالمرجعية الدينية كوعاء لهويتهم السياسية الدور الخطير الذي تلعبه المرجعية في تشكيل الوعي الديني والسياسي على حد سواء، وكما لو كانت "حاضنة" قيمية تتجسد من خلالها ليس فقط طرق التفكير والممارسة وإنما كذلك طموحات وآمال الفئة التي تتمسك بها. إذ تعبر المرجعية عن نفسها بشكل عفوي في الممارسات اليومية وتحدد استجابات البشر وردود أفعالهم تجاه القيم والثقافات الأخرى، ومن ثَم تكمن خطورتها من ناحية في الدور الذي تقوم به خاصة فيما يتعلق بتشكيل الوعي وصياغة الإدراكات السياسية والأخلاقية والاجتماعية.
كما تكمن خطورتها من ناحية ثانية في إمكانية وسهولة توظيفها سياسيًّا وأيديولوجيًّا دون فهمها، فضلاً عن عدم القدرة على تحمل تبعاتها. وإذا تحدثنا عن مفهوم المرجعية الدينية، كما هو في خطاب الإسلاميين على سبيل المثال، يزداد الغموض أكثر فأكثر، فعن أي مرجعية دينية داخل المدرك الإسلامي الواقعي يتحدثون، المرجعية السنية أم السلفية أم الصوفية أم الشيعية... إلخ؟! وفي حال اختيار واحدة من هؤلاء، فما هو موقفها من باقي المرجعيات الأخرى؟.
تطور مفهوم المرجعية تاريخيًّا
تعكس التساؤلات السابقة حجم الغموض الذي يحيط بمفهوم المرجعية الدينية، ومن ثَم تبدو الحاجة ماسة عن أي وقت مضى لتحديده وهو ما لا يتم إلا من خلال رصد مراحل تطوره تاريخيًّا، الأمر الذي يساهم في تفكيك المفهوم وإعادة موضعته من جديد.
ويمكن القول إن مفهوم المرجعية -بغض النظر عما إذا كانت دينية أو سياسية أو معرفية... إلخ- يحيل في دلالته اللغوية إلى أكثر من معنى، فتارة يدل على المردود أو الجواب فيما يقول ابن منظور: "المَرْجُوعُ: جواب الرسالة؛ ومنه قول الشاعر: سأَلْتُها عن ذاك فاسْتَعْجَمَتْ، لم تَدْرِ ما مَرْجُوعةُ السَّائلِ. ويقال: ما كان من مَرْجُوعِ أَمر فلان عليك أَي من مَردُوده وجَوابه. ورجَع إِلى فلان من مَرْجوعِه كذا: يعني رَدّه الجواب". وهو ما يتوافق ومضمون الفتوى الدينية. وتارة يحيل إلى النفع والنجاعة: "يقال: هذا أَرْجَعُ في يَدِي من هذا أَي أَنْفَع، ورَجَع في الدابّة العَلَفُ ونَجَع إِذا تَبيّن أَثَرُه". وهذا المعنى أيضًا يحيل إلى إيجابية المرجعية وأثرها (سلطتها) لدى من يستند إليها ويعتقد بها.
ومن الناحية التاريخية، ارتبط مفهوم المرجعية في تطوره بفكرة "التقديس"، إن على المستوى الشخصي أو المؤسساتي. فعلى مستوى السلطة يبدو أن من طبيعتها أن تقيم تحت شكل ظاهر أو مقنع دينًا سياسيًّا بالفعل. أي إطارًا مرجعيًّا دينيًّا، حتى راح البعض يؤكد أن علم السياسة إنما يتأتى في الأساس من التاريخ المقارن للأديان.
وبحسب هذا التاريخ يتبين أن المقدس هو أحد الأبعاد المختلفة للنشاط السياسي، فالدين بالمعنى المرجعي يمكن أن يكون أداة سلطة تحقق من خلاله شرعيتها، وتستخدمه في نزاعاتها مع خصومها، وتكرس كل أنواع العبادات والطقوس بما في ذلك الخرافات، في سبيل تثبيت شرعيتها وضمان استمرار وجودها وما من مستبد -بحسب الكواكبي- إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تمنحه مقامًا ذا علاقة مع الله.
وتبرز الأبحاث الأنتروبولوجية طبيعة هذا التقديس ومكوناته؛ إذ يؤسس التقديس الفردي داخل "العشيرة" أو القبيلة لتقديس مماثل في الميدان السياسي. فزعيم العشيرة هو نقطة الوصل بين أفرادها ومجتمع الأجداد، ومن ثَم، يتداخل كل من المقدس والسياسي.
ذلك أن المضمون الديني للسلطة السياسية كمرجعية تتأسس وفق ما هو ديني (مقدس) يبقى على الدوام حاضرًا وثابتًا ظاهرًا أو مغيبًا، فسلطة الدين والدولة، في جوهرها، من طبيعة متشابهة. وحسب الفيلسوف الألماني "دور كايم" فإن علاقة السلطة السياسية بالمجتمع تشابه العلاقة القائمة بين الطوطم (إله القبيلة) والعشيرة، وهذه العلاقة هي بشكل جوهري مضمنة بالقدسية، ومن ثَم فإن السلطة تقدّس؛ لأن كل مجتمع يؤكد إرادته في الخلود ويخشى العودة إلى العدم كتحقيق لموته الخاص.
وكان المجتمع البدائي لا يسمح للسلطة السياسية بأن تشكل نصابًا مستقلاًّ ومنفصلاً عن الجسد (الكيان) الاجتماعي، فالرئيس الذي ينطق باسم قانون الآباء لا يعبر عن رغبة فردية بقدر ما يعبر عن نزعة الجماعة وتماسكها. ولاحقًا حدث انقسام بين المجتمع ونفسه، وهذا الانفصال الذي يشكل البنيان السياسي الكامل في أصل كل واقعة اجتماعية.
كما يشكل شرط إمكان كل سلطة، تجلى في البدء من خلال الشكل الديني الذي يقضي بأن يوضع "مرجع" المجتمع في "خارجه"، أي بأن يبعد إلى خارج المجتمع، المبدأَ الذي يؤسسه ويهبه كيانه، والمصدر الذي يكسبه شرعته ونظامه، والمكان الذي يستمد -ابتداء منه- معناه ويعقل ذاته.
وهكذا وجد المجتمع نفسه أمام تطور مهم تمثل في انفصال "المرجع الديني" عنه، ما يشكل جذر الواقعة الدينية، ويعبر عن أساس فكرة الدين التي تقضي بأن يتعرف المجتمع على نفسه، من خلال شيء آخر مغاير له، أي تبعية معتنقيه وارتهانهم لقرارات الغيب واللامرئي، وهو ما أطلق عليه غوشيه "دين المعنى". والواقع أن تصور المجتمع لنفسه من خلال الدين ينطوي أصلاً على بُعد سياسي ورمزي. فالاعتقاد بأن مصدر التشريع والتقرير يأتي من خارج المجتمع، إنما يعني رفض المجتمع لقيام سلطة داخلية تملك حق التقرير وإعطاء الأوامر، كما أن التسليم بارتهان البشر للعالم الآخر، يعبر في الأساس عن محاولة الجماعة لمنع "ارتهان الإنسان للإنسان". وبالتالي، طلب "المساواة"، ولو من خلال الارتهان للغيب.
[toutrbi